نوستالجيا.. مَرْنِيسَة ذاكِرَةُ زَمَانٍ وَمَكَان

 

إدريس الواغيش

مُنذ ولادة الإنسان وإلى أن يُصبح طفلا، يكتفي بالنّظر إلى المُحيط الأقرب إليه، ولكن تأتي مرحلة لاحقة، تزيغُ فيها الحواسُّ والعَينان، ويمتدُّ البَصرُ بعيدًا قليلا عن المركز والمُحيط الذي يصبح مع مُرور الوقت أكثرُ ضَيْقًا. هكذا، وجدت نفسي أفكّر في النّظر إلى أبْعَدِ مَدًى مُمكن عن فضاء قريتي. وكان أوّل ما رأيت، أشكالا من السُّحب تتقاطع مع زُرقة السّماء جيئة وذهابًا، قبل أن تغيب عن رُؤيتنا في احمرارها الأبدي جهة الغرب. حينما دخلت إلى الكتّاب في القرية، قيل لي: ستكون محطتك المقبلة مدرسة "الإثنين" اسم مدرستي الأولى، الأكثر استعمالا وتداولا بين الناس، وتعود التّسمية إلى سوق أسبوعيّ كان يقام في المكان أيّام الاستعمار الفرنسي، وحتى بداية الاستقلال، قبل أن يُرَحّل في ظروف مُلتبسة إلى مكان آخر. كان القصدُ يومها مدرسة سيدي عبد الرّحمن، تلك التي درست فيها المرحلة الابتدائية. سألت عنها شيخا مُسِنًّا، إذا به يشير إلى ما يُشبه البَياض. كانت المدرسة عبارة عن أربع حُجُراتٍ تآكلت جُدرانها وبَهُت لونها.

كانت البنايات تبدو من بعيد حجرية وبلا لون، منعزلة عن بعضها. مدرسة وحيدة، مُوحِشة أيام الآحاد والعُطل، لمّا يفارقها ضوضاء التلاميذ. تتمركز إلى جانب طريق تؤدي إلى مرنيسة شرقًا وتاونات غربًا. لم يكن بجوارها يومئذ منازل أو منشآت حكومية. فقط، بضعة منازل معدودة على رؤوس الأصابع ودُكّانان صغارين، واحد منهما يبيع السّجائر. تبعُد المدرسة عن دوّار "أيلة" بما يقرب الأربعة كيلو مترات، وكان يلزمنا الهبوط إليها صباحًا، والصُّعود إلى الجبل مساء بشكل يومي. والصعود اليومي إلى الجبل له دلالاته وصُعوباته، لا تشعر بها سوى الرُّكبتين الصّغيرتين المسكينتين والعضلات البَضّة، لأنّهما المَعنيتان وحدهما بمشاقّ الصُّعود دون باقي أعضاء الجسم، وما يصاحب ذلك من تعب وإرهاق شديدين عند الرجوع في المساء. لو أضفنا إلى ذلك، ما كنّا نُعانيه من فقر وغياب ألبسة قطنية أو جلدية وأحذية بلاستيكية في حدّها الأدنى، سنعرف أن الأمر يستفحل أكثر؛ وهو ما كان يحصل في الغالب.

كان روّاد المدرسة من التلاميذ أطفالا وفتيات، على قِلّتهنّ، يقطنون في دواوير متقاربة جغرافيا من حيث المسافة، ولكن بعضهم، كان يلزمه قطع أكثر من عشرة كيلو مترات ذهابًا وأخرى إيّابًا، ويقطعون وِدْيَانًا حتى يتمكنوا من الجلوس على مقاعد المدرسة، وتزداد خطورتها في فصل الشتاء. ومع ذلك، كان الأطفال الأكثر قُرْبًا من المدرسة يغبطوننا، كوننا أكثر تحرُّرًا من مُراقبة عيون معلمي المدرسة يوم الأحد، وباقي أيام العطل القصيرة. كان المُعلمون يترصّدونهم أثناء اللعب خارج أوقات الدراسة، ويعاقبونهم دون رحمة؛ ولذلك يبتعدون ما استطاعوا طلبًا للتّحَرُّرِ من الرّقابة.

كانت المدرسة فرصتنا الوحيدة للتعارف مع أطفال خارج الأسرة والقرية والعائلة، أتذكر كيف كانت الثلوج تمنع التلاميذ من الوُصول إلى المدرسة في فصل الشتاء، لأنهم لا يتوفرون على أحذية. وأتذكر مع كل ذلك، مَشْهَدَ حذائي الجلديّ مَحَلّيّ الصُّنع، تمزّق ذات يوم وسط الطريق المُمتلئ بالثلوج، ولم تَعُد لي خيارات أخرى، أمام إصراري الشديد على عدم تضييع حصص اليوم الدراسي، خوفا من جهة الأب والمعلم أولا، ورغبة في التحصيل ثانيا، فما كان مني إلا أن رميت الحذاء، وواصلت السَّيْرَ مشيًا على أقدامي الحافية، حتى تورَّمت يداي وأصابع قدميّ من شدّة البرد. لم أعد أقوى على المشي، وكاد يُغمى عليّ. بقيت ساقطا على الأرض، ومُصادفة وجدني أحد المَعارف، وأرجعني مَحْمُولا على ظهره إلى الأسرة.

مادة التربية الإسلامية كانت من أصعب الحِصَص التطبيقية التي تُدَرَّسُ في المدرسة، ليس لأنها عَصِيَّةٌ على الفهم، ولكن معلم اللغة العربية، الفقيه في الأصل، والذي لم يكن يعرف من المطربات إلا أم كلثوم، يُقَدّم الدرس التطبيقي في الهواء الطلق قرب السّاقِيَةِ، حين يتعلق الأمر بالوُضوء، ولا تهمُّه أحوال الطقس الباردة جِدًّا ولا الحَياءُ. كان يفضل تقديم درس الوُضوء عمليًّا، بدءًا من أوّله إلى آخره أمام الملأ، يقدّمه تلميذ يُعَيّنه المعلم. وويل لمن ضحك أو خجل من وقوف المارّة من الرّجال والشبّان، وحتى بعض النساء والفتيات، كان يدفعهنّ الفضول للاطلاع على عَوْرَاتِنا. لم تكن صحّة أبداننا حاضرة في تفكير المُعلم، كان يكتفي بطرد الأطفال والبنات الصغار، أما الكبار رجالا وشبّانا، فلم يكن يجرُؤ على منعهم من متابعة الحصص التطبيقية المتعلقة بالوُضوء.

لن أبالغ إذا قلت إنّ الأمس كان دائما أجمل، هناك كنت أسمع كلام الناس الطيّبين في كل مكان، في مساءات وصباحات "أيلة" تحديدًا، قريتي الصغيرة التي تكاد تلامس بياض الغمام في السماء. هناك في القرية، عشنا زمنًا حقيقيًّا مع الأحياء. وهنا في المدينة، نعيش العبث واللاّ زَمَن في الافتراضي مع الموتى، سواء في الحياة أو الشارع والمقهى.

لست أدري، لِمَ أجد نفسي دائمًا مدفوشًا إلى الكتابة عن مرنيسة، وأقحم نفسي في ذاكرة المكان دفشًا؟ أكيد، هناك شوق كبير إلى زيارة المنطقة، وحنين إلى البلاد أو "تمَازيرْت" لأنّني لم أزُرها منذ ما يقارب السّبع سنوات، ولكن يوجد ما هو أعمق بكثير، هناك استحضار دائم للحُضور في زمن الغياب، وحنين باطني في الداخل يتجدّد فِيّ كل يوم، يتحدث عن عالم أسافر منه وإليه، ورجوع إلى زمن الصِّبَا والطفولة. هناك، بدأت الخيوط الأولى للحكاية، هناك يوجد الأنا والآخر، كثير من الطين والتّراب، قليل من الإسمنت والإسفلت، وَصُوَر مُكَدّسَة من مُراهقتي الأولى. هناك، بدأت رحلة الدراسة في الكُتّاب، قبل أن أنتقل إلى الابتدائي بميزة مُشرّفة، وقد حفظت عشرة أحزاب أو يزيد قليلا من القرآن الكريم، على يد أكثر من فقيه، ثم جاءت بعدها المرحلة الإعدادية.

وسواء قلنا مرنيسة "Maurensis" ومرنيسي وامرنيسن أو طهر السُّوق "Tahar souk" لا فرق في ذلك، مرنيسة كتلة مترامية الأطراف من الدواوير والقبائل في جبال الريف الناطقة باللغة العربية، وهي الحدّ الفاصل بين الناطقين بالعربية والأمازيغية في الريف الشمالي الشرقي؛ ولذلك لا عجب أن تجد الثانوية الإعدادية تحمل اسم "أنوال" وثانويتها التأهيلية تحمل اسم زعيم مقاومة الريف للاحتلال الإسباني، وبطل معركة أنوال محمد بن عبد الكريم الخطابي. وقد يرجع أصل مرنيسة إلى القبائل الأولى التي استوطنت المنطقة؛ وهو ما يعرف تاريخيا بالمَرنيسيّين، وهم بونيقيّون في الغالب، كما يقول بذلك المؤرخ اليوناني ديودوروس الصقلي، وتمّ تسجيلها باسم "Mauri" بواسطة "Strabo" في أوائل القرن الأول ميلادية، ويجمع المؤرخون الإغريق والرومان على أن موطن بلاد المَرَانِس (المَرنيسيون أيْ المُور) هي الضفة المقابلة لساحل إيبريا الجنوبي، ولو أن ابن خلدون وأبا عبيد البكري والحسن الوزّان وغيرهم لهم رأي آخر، ويرجعون أصولها إلى قبيلة نفزاوة الأمازيغية. المسألة تاريخية معقدة تحتاج إلى دراسة وبحث ميداني وحفر أركيولوجي، تاريخي وأنثروبولوجي عميق. أما طهر السّوق، فهو اسم إداري لدائرة تابعة لعمالة إقليم تاونات، يرجع في الأصل إلى دوار صغير يركن وراء كدية، أقل ارتفاعا من الهضبة وأصغر قليلا من الجبل، وهي لا تبعد سوى كيلو مترين أو أقل قليلا عن المركز الإداري لقبائل مرنيسة.

هذا المكان، يشكل اليوم امتدادا لحيّ سكنيّ، يتقوقع أسفل جبل "بُوصْبَابَع" وقد سُمِّيَ بذلك، لأن منظره يشبه الأصابع، كان ضيعة كبيرة مصفوفة بأشجار الزّيتون، بشكل جميل لا عهد لنا به في حقولنا الصغيرة، بها كل أنواع الفواكه التي تمّ استنباتها من قبل الفرنسيّين في عهد الحماية: مندرين، إجّاص، برتقال، نافيل، رُمّان، زَيْزَفون وغيرها. كل هذه الأنواع كانت في منطقة تسمّى "فدّانُ المِير". هذه الأشجار انقرضت تباعًا، ولم يبق منها سوى غابة إسمنت بيضاء. البعض يسمّيه كذلك "فدّانُ النّصارى" وإن كنّا نعرف النّصارى من خلال تاريخهم الاستعماري، لا أحد منّا يعرف هذا "الْمِير" هل كان نصرانيا من المستعمرين الفرنسيّين؟ أو من سكانها الأوائل؟ ولو أن كلمة "الْمِير" في حَدّ ذاتها لا جذر لها ولا أصل في اللغة العربية، إلا إذا اعتبرناها تحريفا من كلمة "أمير" وهناك مَثَلٌ يتداوله الناس فيما بينهم، يقول: "يْلَا كُنتي أنتَ مِيرْ وأنا مِيرْ (بمعنى أمير) شْكُونْ يْسُوق الحَمير؟" هذا المنبسط المُسَمّى "فدّان المِير" أقرب ما يكون إلى سهل صغير، يمتدُّ مُنْحَصِرًا بمُحاذاة وادي ورغة.

أتذكر وجيلي، كما أجيال مرّت بعدنا أو قبلنا، أن متعة الحياة تكاد تجاور الفقر، وقلة ذات اليد. كان عدد من طلاب الإعدادي يُرغمون على لعب حصص التربية البدنية حُفاة دون أحذية رياضية، حتى في الشهور الماطرة والمثلجة في السبعينيات ونهاية الثمانينيات. كانوا يدوسون بأرجلهم العارية على "الجْرِيحَة" وبقايا قطع الثلج البيضاء في الفترة الصباحية مع الثامنة، وكأنّ أرجلهم من خشب، لا يشعر المساكين بدفء الأرض تحت أرجلهم إلا بعد أن تتخطى الشمس أشجارا تركها الإفرنج، ولا تذوب إلا بعد العاشرة، حينها تكون قد فعلت فعلتها بالأرجل الحافية.

مركز طهر السوق يشبه "زلافة" جغرافيا، يقع في مثلث الرُّعب الشّتوي، بين نهري وادي ورغة غربًا ووادي أمسيل شرقًا، هذا الأخير يتميّز بجفافه طول السنة، ولكن يصبح مُخيفا ومُستأسدًا في المواسم المطيرة، كم مرة عزل الدواوير المجاورة عن المركز، ومنع الطلاب من الوصول إلى الإعدادية في فصل الشتاء، ويكونون حينها مضطرّين للانقطاع عن الدراسة لمدة قد تقارب الأسبوع، والانتظار حتى ينخفض منسوب المياه في الوادي. أما نهر ورغة فمعروف بفيضاناته وشراسته ورُعبه الشتوي، وسبق له أن أطاح بالقنطرة التي بناها الفرنسيّون، وعزل مرنيسة عن المغرب عدة شهور، ولم تعُد تصل المُؤن والمواد الغذائية إلا عبر طائرة الهليكوبتر، قبل أن تعود الحياة تدريجيًّا. ثم أطاح بالقنطرة الثانية، وهي في طور البناء، وعوّضت بأخرى ثالثة متينة في السنوات الأخيرة بمواصفات عصرية. النهران كانا دائما نعمة على المنطقة، وقد يتحوّلان إلى نقمة على مرنيسة وحوض ورغة العلوي، يلتقيان بعيدا قليلا أسفل المركز، ويستحوذان على ما أمكنهما من الأراضي المنخفضة الصالحة للفلاحة، رغم ما بُني حول جنباتهما من أسوار وحواجز إسمنتية. هكذا، وجد مركز طهر السوق - الذي سُمِّيَ أخيرا مجازًا بمدينة أو حاضرة- نفسه لسوء قدره، أفقر من أيّ مدينة في المغرب من حيث الوعاء العقاري.

حين أمُرُّ على قدميّ - وهذا نادرًا ما يقع- أنظر أسفل الطريق جنب وادي ورغة، وأرجع بعقارب الزّمن إلى الوراء، أسترجع ذكريات المُراهقة وأنا طالب بالإعدادي 1975 - 1978، أشفق على ما تبقّى من شُجَيْرَاتِ الكاليتوس، هي التي كانت في أصلها شبه غابة، كنّا نستظل بها من حَرّ شمس الصيف. يَعِزُّ عليّ أن أرى ملعب كرة القدم مرّت منه أسماء ذوي مهارات عالية، تُجيد المُراوغات بشكل فطري ومُذهل. كانت تجري كالخيل في الملعب ساعات دون أن تتعب، كأنّها تستعمل مُحَرّك ديزل أو تلعب برئتين. أتذكر حصص الـ"A.S.S" الرياضية التي كنّا مُجبرين على حضورها مساء كل جمعة، والشّجارات العنيفة التي كانت تقع بين الطلاب مع نهاية بعض المباريات. يستحضر خيالي الغَدِير القديم الذي كان يجاور القنطرة، لم يَعُد له وجود منذ أن داهمتنا سنوات الجفاف في العَشرية الأخيرة. كنا نسبح فيه كل يوم، يقصده المراهقون وهواة الصّيد يوم الخميس الذي يتزامن مع السوق الأسبوعي. كان البعض منّا ومنهم، يقفز بشكل استعراضي من علوٍّ يتجاوز العشرين مترًا. الأقسى عليّ، هو حين تحضرني صورة تلك الفتاة الجميلة، الصغيرة في السّن والبنية، وقد كادت تطوِّح بها الرّياح العاتية إلى الأمواج المتلاطمة وسط نهر ورغة المُخيف ذات صباح، وهو كما يُعرف عنه مُرعب في انسياب مياهه، وهي مُنحدرة من أعالي جبال الريف في قدومها من بني بشير نواحي تارجيست والحسيمة. كان يكفي أن تنظر إلى عُلوّها وتلاطمها في فصل الشتاء، حتى يقشعر بدنك، وتصاب بالدَّوار والخوف والرّهبة، لأن علوّها فيما يُسمّى عندنا محليًّا "الحَمْلة" يكاد يلامس حديد القنطرة. كان العُبور فوق القنطرة، لدينا، ونحن قادمون من دار الطالب في اتجاه الإعدادية، جحيمًا حقيقيا لا يُحتمل، خصوصًا حين تكون الرياح قوية والأمطار عاصفة، وكأنّ الرّياح كانت تستقوي بالنهر على جنبات القنطرة أكثر من اللازم، وتصبح أكثر عُنفًا وعُدوانية.

نكبر ونتقدم في العُمر، والأشياء تتغيّر من حولنا، دون وعي أو إدراك منّا. كانت تُسَمّى إعدادية "طهر السوق" صارت تسمّى إعدادية "أنوال" وبين التّسْمِيَتين تندسُّ تفاصيل صغيرة، وحكايات طويلة. أذكر أن فترة استراحتنا الزوالية كنا نقضيها، ونحن طلاب، تحت ظلال الزيتون والكاليتوس المُحيطة بأسوارها في فصل الربيع، وفي الصيف نتحوّل إلى طيور مائية، نتنقل بين زُرقة غُدران نهر ورغة بحثا عن الأعمق، ونمشي صعودًا وهبوطا من قنطرة الوادي إلى ملتقى النهرين: وادي ورغة ووادي أماسين. وحين كان العياء يُراود أجسامنا، نستلقي كالدَّلافين على ظهورنا، نستمتع بالشمس حينًا، وفي أخرى بظلال الأشجار، كان الأمر يتكرّرُ مع نهاية كل فصل ربيع وبداية فصول الصيف. يغفي بعضنا قليلا، إذا تناول صحن فاصوليا في مقاهي "الفيلاج" الشعبية أو علبة سردين مع "نصّ كوميرا" عند مولاي أحمد، التاجر الذي يبيع كل شيء: أكياس الإسمنت، قُضبان الحديد، المواد الغذائية، الدّخان بالجُملة والتقسيط، علب السردين وغيرها. لم تكن وجبات غذاء اليوم تختلف عن وجبات الغَد، كلها تتشابه كما أيّامنا المتواليات. لم تكن الوجوه أيضا تختلف، ما تراه اليوم يتكرّر غدا، كما سكون الأجواء من حولنا. لا ضجيج السّكّان يقلقنا في الظهيرة، ولا سيارات أو عابرو سبيل، لأنها لم تكن موجودة أصلا. الدّيار المُستحدثة هي الأخرى لم تكن موجودة يومئذ، ولم تستنبت إلا أخيرًا كالفطر. عند ما يغلق مولاي علي حارس الإعدادية الأبواب، يطبق السّكون على المكان إلى حدود الموت، إلا من ضجيجنا نحن، ولم يكن هناك وجود ولا أثر للبشر، إلا من أثرنا وجعجعتنا نحن. كنا نختفي كالعفاريت، ونظهر بين الشعاب كالذئاب، ونختفي بين الوديان الصغيرة والأحراش كالثعالب.

في فصل الشتاء، كنا نستجير بالمركز من المطر، كان يسكن بيننا أسابيع وشهورا، يتبعه بياض الثلج ويحلو له المقام، حتى إننا كنا في بعض السنوات نخاف من أن يُخْلِفَ دفء الربيع موعده، ولا يأتي بعده فصل الصيف. كنا نستمتع بأكل أطباق "اللوبيا" والعدس في المقاهي الشعبية بمركز طهر السّوق، نحتمي من زخّات المطر وقرّ البرد، نلتصق بالجدران كالماعز، تحت سقوف ما فاض عن الدكاكين الصغيرة من إسمنت وزنك، وأحيانا نلوذ بحوانيت "القيساريات" نستلذّ بشغبنا أمامها بعيدا عن عيون مُلّاكها، نتحاشى أنظار الأساتذة وأطر الإدارة التربوية المتربّصة بنا، ونتفادى عيون جواسيسهم التي تحاول الاندساس بيننا. أحيانا، يحدث أن نُطيع أقدامَنا، ولا ننتبه إلا ونحن كالثعالب فوق "صفّ بُوصْبَابَع". شكل جغرافي في طبيعته على هيئة جبل، ولكن ما كان يُحَيّرني فيه، هو كيف اهتدى الأهالي إلى تسمية هذا المخلوق العجيب النابت في مقدمة جبال الريف "صَفًّا"؟ لستُ أدري. كل ما أعرفه، أنّ هذا الكائن الجغرافي، يمتد على شكل أصابع اليد من الغرب في اتجاه الشرق أو العكس، وربما كان اصطفافه على هذا الشكل هو ما أعطاه هذا الاسم. لم يكن يبعد عن المركز إلا بكيلو متر واحد أو أقل قليلا. يمكن أن نسمّيه انفجارًا بُركانيا قديمًا تشكّل على شكل هيكل غريب، لم يسمّوه جبلا ولا هضبة، كما جرت العادة، ولكن استحسن الأهالي أن يسمّوه "صَفًّا". ليس له امتداد جغرافي، ولا شكل واضح المعالم. لا هو هضبة ولا هو جبل. ولذلك اختار له السكان مُصطلحًا جغرافيا يليق به في لهجة المنطقة. وربما أطلق عليه السكان اسم "الصّفّ" لأن هيأته المتشكلة من صخور كبيرة انتظمت واقفة بشكل مستقيم، فسُمّي كذلك. وزادوه لقبا آخر أغرب، هو "بُوصْبَابَعْ" ويعني ذا الأصابع، لأن القدرة سنّنت ظهره. ومع تعاقب الأزمنة الجيولوجية ومختلف عوامل التعرية، أصبحت أكثر حدة تشبه أسنان المنشار أو مشط شعر مُستقيم.

(عن "هيسبريس")