مكتبة الحاج عثمان

 

محمدن ولد عبد الله

كانت مفاجأة كبرى لي ذات مرة في ذلك المساء الهادئ.. عندما اتصل علي أحد أصدقائي السنغاليين ليبلغني أن هناك شيخا طاعنا في السن يتلهف للقائي!

ترى ماذا يريد؟ سألت نفسي بكل استغراب..

اتفقنا على موعد معه في الأيام المقبلة؛ غير أن صاحبنا أحس بدنوِّ الأجل، وخاف أن تفوت الفرصة قبْل لقائنا فأوصى علي الصديق الوسيط بأنه سيلقى ربه بعد قليل، وأن أهم تركة عنده وهي أعز ما يملك: مكتبة عربية زاخرة بالعلوم والمعارف، ويرجو مني الإشراف عليها والمحافظة عليها من كل جانب؛ فهي ثمرة حياته على حد وصفه. بعد الوصية أسلم الروح إلى بارئها من دون أن نلتقي، رحمة الله عليه.

 شعرت بالزهو والمسؤولية بعد وصية ذالك الرجل الحكيم، ووقفت وقفة إجلال وتقدير احتراما له ولمقامه.

بدأت العمل وقمتُ بإحصاء المكتبة وجدولتها. لم يبق فن من الفنون إلا وجدته أمامي، بداية من تفاسير القرآن التي زادت على الخمسين تفسيرا، ثم الحديث الشريف وعلومه، والسيرة النبوية، والتاريخ، والتراجم، مرورا بعلوم الفلك والطب، ونهاية بكتب التصوف وعلم الاجتماع والفلسفة.

على رفوف المكتبة تجد الأضداد والنقائض؛ حيث "الفتوحات المكية" لابن عربي بجانب كتب التوحيد السلفية، و"حكم ابن عطاء الله" تكبح جماح "طوق الحمامة" لابن حزم؛ فيما تزدان الرفوف الأخرى بروائع الأدب وذخائر اللغة من "الكامل" للمبرد و"البيان والتبيين" للجاحظ و"أدب الكاتب" و"رسالة الغفران" إلى طه حسين و"الأيام" و"حديث الأربعاء".

"مقدمة ابن خلدون" رائدة علم الاجتماع، تشكوا الغربة والضياع عبر "أغاني الأصفهانى" إلى "الأمالي" لأبي علي القالي؛ فيما "الموشحات الأندلسية" ترنو إلى عصورها الذهبية شادية من "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين ابن الخطيب" إلى غير ذالك من روائع الأدب العربي والإسلامي.

بعدما نقبت في أرشيف هذا الرجل الحكيم وقرأت عن صولاته وجولاته في حلّه وترحاله، وجدته أحد أبناء مدينة "سُكُون" إحدى مدن الجنوب السنغالي. تلك المدينة التي أنجبت العالم الكبير "الشيخ أحمد دم" صاحب التفسير الكبير الذي طُبع مؤخرا بعد أن أمضى أربعين عاما في أدراج مكتبة جامع الأزهر بالقاهرة مخطوطا ينتظر الطبع، وبعد إشعار الرئيس عبد الله واد بضرورة طبعه كتراث إسلامي سنغالي أصدر الأوامر بطبعه ونشره؛ وهو ما تحقق بالفعل، وكان يومُ تسليمه لأسرة المؤلف يوما مشهودا امتزجت فيه الأبعاد الدينية والروحية بالمصالح السياسية والاجتماعية في مدينته. كما حَصل كتاب "ضياء النيرين" للعلامة الحاج أحمد دم على اعتبار خاص في الحملة الرئاسية 2019 حيث حمل الرئيس ماكي صال عدة نسخ من الكتاب معه في زيارته للمدينة قبل أيام ووزعها على أسرة المؤلف لكسب ود الناخبين هناك.

 سكون أيضا هي المدينة نفس التي قِيس فيها ظِلُّ الزوال، ونظمه الشيخ محمد اليدالى بأبياته الشهيرة:

للظلِّ أقدام بكلِّ بلدةِ ** تُعرفُ وهي في بلاد القبلةِ

دَجْءٌ وخمسة بلا ظلِّ تلا ** ها أجدهُ واجعل يُنيِّر أولا.

"سُكُون" وإن أنجبت الشيخ أحمد دم، ومن بعده أقوى أباطرة الإعلام السنغالى الذين يتربعون على مجموعة "سِدْ" ومعهد "إِيزِيكْ" لتكوين الصحافة، إلاَّ أَن صاحب المكتبة (الحاج عثمان گي) أسكنه الله فسيح جناته سيبقى في خلدي إلى الأبد.

 فإن يك قد وافاه الأجل قبل لقائنا فقد التقيت به لاحقا عبر كتبه النادرة ومذكراته وأرشيفه الضارب في القِدم، فحُقّ لمدينة "سُكُون" أن تتحرك زهوا وطربا، ولِمكتبته الزاخرة أن يفوح شذاها كلما هبت "رياح الجنوب".