مرافعة سوية في "ملف فساد العشرية"! (24)

 

وكان من حسنات هذا القائد البطل أنه وفى بعهده، وبر يمينه، ورفض بحزم وعزم انتهاك الدستور، والترشح لمأمورية ثالثة مضمونة النتيجة؛ ضاربا عرض الحائط بجميع الضغوط الداخلية والخارجية التي مورست عليه، وخاصة من أغلبيته. ونظم انتخابات شفافة كما ذكرنا آنفا، وسلم السلطة لخلفه في يوم مهيب ومشهود!

وما إن غادر البلاد حتى انتهز أعداؤه الفرصة وسعوا بالنميمة بينه وبين خلفه. واتخذوا من مرجعية الحزب الحاكم الذي أسسه هو سببا للانقلاب عليه وعلى نهجه الوطني الإصلاحي، وعملوا على شيطنته وحرمانه من ممارسة حقوقه المدنية، وعلى إقصائه عن الساحة السياسية خوفا من تأثيره في الحياة الوطنية، ومن شبح عودته إلى السلطة الذي يؤرقهم ليلا ونهارا! وقد انتهزت أحزاب المعارضة فرصة الانقسام الجاري داخل الموالاة، فسعى بعض قادتها بإبلاغ كاذب إلى رئيس الجمهورية يتهمون فيه الرئيس السابق بالفساد ونهب المال العام. ورغم رد رئيس الجمهورية الصريح على وشايتهم؛ والذي أخبر به سلفه هاتفيا، وشهد به مفصلا النائب بيرام ولد اعبيدي! فإنهم ظلوا يعملون على تشكيل لجنة تحقيق برلمانية غير شرعية، حدثنا عن ظروف نشأتها وعن هدفها الأستاذ الدكتور لو غورمو نائب رئيس حزب اتحاد قوى التقدم في مقابلة مع بي بي سي فقال: "نحن من دعا إلى تشكيل لجنة التحقيق البرلمانية، ونسعى بها فعلا إلى تصفية الحسابات مع ولد عبد العزيز الذي لم يكفَّ خلال عشريته عن تصفية حساباته معنا؛ ولم يلتحق نواب الأغلبية بدعوتنا إلا بعد انفجار أزمة المرجعية".

... وكان لهم أخيرا ما أرادوا مع الأسف الشديد!

ولا غرو! فالتاريخ مليء بأمثلة الانقلابات الناعمة والخشنة ضد القادة والزعماء العظام: خروتشوف ضد ستالين ونهجه، السادات ضد عبد الناصر ونهجه، بن علي ضد بورقيبه ونهجه، كومباورى ضد توماس سنقرى ونهجه.. الخ. فمن طبيعة البشر المتصارعين على المصالح (الخير والشر) أنْ كلما برز عظيم في أمة يعمل لصالحها العام، تكالب عليه من هم دونه من أصحاب المصالح الخاصة، وتآمروا بغية القضاء عليه حفاظا على مصالحهم الأنانية! ومن أبرز أمثلة ذلك في التاريخ: مثال يوليوس قيصر الذي قاد الفتوحات ووسع مساحة الجمهورية الرومانية وفرض السلطة المركزية القوية فيها، ونال ثقة الجيش، وساعد الطبقات الفقيرة ووزع عليها القمح مجانا، ووسع عملية التمثيل في المؤسسات، ووضع القوانين والنظم، وأنشأ المباني والأبراج العظيمة، فأنقذ بعمله الجبار الجمهورية الرومانية من الانهيار وأعاد لها مجدها وزاد في رفع شأنها بين الأمم، لكنه حصد بذلك - دون أن يدري- عداوة مجلس الشيوخ والنبلاء، فاتهموه بالاستبداد والتعدي على صلاحياتهم، وروجوا الشائعات الكاذبة بأنه سينصب نفسه امبراطورا مدى الحياة، ويقضي على الجمهورية! وذات يوم (15 مارس 44 ق م) غدروا به، فتلقى 23 طعنة من أعضاء مجلس الشيوخ المتآمرين، ومن بينهم أعز أصدقائه؛ بروتس الذي قال فيه كلمته الخالدة: "حتى أنت يا بروتس"! وقد اعتقد المتآمرون يومئذ أنهم - بذلك الفعل- ينقذون الجمهورية ويحمون الحرية والديمقراطية! ولكن النتيجة كانت أن الخناجر التي وجهت إلى قلب القيصر أصابت قلب الجمهورية الرومانية فقضت عليها!

... وتمت المؤامرة على ثلاث مراحل هي: الانقلاب على الحزب الحاكم (فتنة المرجعية) الانقلاب البرلماني (لجنة التحقيق البرلمانية)، الانقلاب القضائي (الغش والتدليس وتزوير الإجراءات والاتهام بالباطل والحبس والمحاكمة). وقد استخدموا في ذلك الوسائل التالية:

- التفريق بين ركيزتي الخيمة الموريتانية آنذاك: محمد ولد الشيخ الغزواني الرئيس الحالي، ومحمد ولد عبد العزيز الرئيس السابق، حتى يتسنى لهم القضاء عليهما الواحد تلو الآخر! بصفتهما روح حركتي أغسطس، وأساس العشرية، وركيزتا نظامها الوطني؛

- الإطاحة بالوطنيين والمخلصين في جهاز الدولة وزرع المفسدين محلهم؛

- التآمر على الرئيس محمد ولد عبد العزيز والعمل بجميع الوسائل على  تلطيخ سمعته والقضاء على رمزيته كقدوة وطنية ومثال حسن يحتذى به، والايقاع به واعتقاله والعمل على تصفيته جسديا تصفية ناعمة!

... وتتابعت حلقات المسلسل المخيف الواحدة تلو الأخرى:

1. "فتنة المرجعية" (الانقلاب على الحزب الحاكم وتخريبه من داخله والسيطرة على زمامه).

يتبع