مرافعة سوية في "ملف فساد العشرية"! (5)

 

النقطة رقم 5 من بيان "تعهد" دفاع النيابة

تقول هذه النقطة ما يلي: "إن الجدل المثار حول حصانة السيد رئيس الجمهورية السابق، التي استند القائلون بها على مقتضيات المادة 93 من الدستور جدل محسوم نهائيا؛ ذلك أن هذه الحصانة تنتهي مع انتهاء مأمورية السيد الرئيس، فهي ليست حصانة مرتبطة بشخصه؛ بل بوظيفته. وعليه يكون تحريك الدعوى العمومية في حقه بعد انتهاء مأموريته أمام المحاكم العادية أمرا واردا تماما".

ورغم "بساطة" هذا النص "ذي الوضوح الكاذب" هو الآخر، فإننا لن نلجأ إلى تأويله بما لا يحتمله، ولا "بمفهوم المخالفة" أو غير ذلك من أقوال "الفقهاء" من أمثال الأستاذ جان افوايي (Jean Foyer) بل سنقتصر في عجالة على ما تَرْشَحُ به فقرات النص الثلاث؛ وهي: حسم الجدل حول الحصانة. وانتهاء الحصانة بانتهاء مأمورية الرئيس لعدم ارتباطها بشخصه؛ بل بوظيفته. وكون "تحريك الدعوى العمومية في حقه بعد انتهاء مأموريته أمام المحاكم العادية أمرا واردا تماما".

- حَسْمُ الجدل حول الحصانة. من - يا ترى- حسم الجدل حول الحصانة؟ هل حسمه المجلس الدستوري؟ أم المحكمة العليا؟ أم إحدى درجات القضاء مهما كان نوعها؟ وبماذا تم حسمه، وعلى أي أساس من القانون الذي "هو التعبير الأسمى عن إرادة الشعب ويجب أن يخضع له الجميع" حسب ما نصت عليه المادة 4 من الدستور؟ الجواب هو لا! فالذي حسم الجدل هو دفاع النيابة.. "الطرف المدني" المدعي! وحَسَمَه في 25/10/2020 تمهيدا لتحريك دعواهم المزمع تحريكها.. ومع حرص شديد على حجب نص المادة 93 من الدستور "التي استند القائلون بالحصانة على مقتضياتها" حسب اعترافه! وعلى هذا الأساس، فإن القول بحسم الجدل حول حصانة الرئيس السابق قول باطل، ومجرد دعوى مدع، وهروب إلى الأمام من قبضة المادة 93 من الدستور والمستندين عليها، ومحاولة غير موفقة لوأد تلك المادة العصية العنيدة! لكنه - على جميع علاته الصارخة- قول قال به ستون 60 محاميا يتقدمهم جميع نقباء هيئة المحامين السابقين الممارسين!

- انتهاء الحصانة بانتهاء مأمورية الرئيس لعدم ارتباطها بشخصه؛ بل بوظيفته. لقد وردت "نظريات" كهذه ضمن الاستشارة المذكورة التي يمتاح منها متكلمو دفاع النيابة حججهم بتصرف! فما مدى صحة هذا القول؟ إنه خليط من حق وباطل أريد به باطل! فالحصانة المسطورة في المادة 93 من الدستور؛ والتي بموجبها لا يساءل "رئيس الجمهورية عن أفعاله أثناء ممارسته لسلطاته إلا في حالة الخيانة العظمى" لا تنتهي بانتهاء مأموريته كما زُعِم؛ والقول بذلك سذاجة واحتقار لعقول الناس. بل تظل قائمة إلى أبد الآبدين، وهي مرتبطة بشخصه كشاغل لمنصب رئاسة الجمهورية على مدى مأموريتيه. وعندما تنتهي مأموريته الأخيرة ويترك شغل هذا المنصب فإنه يصبح مسؤولا عن أفعاله اللاحقة مثل سائر المواطنين! وهذا ما سوف يتضح من نص المادة 93 نفسها. وهو ما يحاول دفاع النيابة طمسه بعبارات مطاطة لا أساس لها من الحق والقانون!

- كون "تحريك الدعوى العمومية في حق الرئيس بعد انتهاء مأموريته أمام المحاكم العادية أمرا واردا تماما".  لا شك في أن تحريك الدعوى العمومية في حق رئيس الجمهورية أمام القضاء العادي فيما جناه بعد انتهاء مأموريته ليس "أمرا واردا تماما" فحسب؛ بل هو أمر تنص عليه جميع القوانين بصفته أصبح مواطنا عاديا! لكن دفاع النيابة لا يعني بعبارة "أمرا واردا تماما" هذه الحالة البديهية؛ بل يعني تحريك الدعوى ضد الرئيس المنتهية ولايته أمام القضاء العادي على أفعاله خلال مأموريتيه؛ خلافا لصريح نص المادة 93 من الدستور التي يتجنب ذكر نصها! ولعل القائمين على مشروع دفاع النيابة يريدون بهذا القول التملص من أحكام الدستور و"التأسيس" باطلا لمساءلة الرئيس السابق - واللاحق أيضا- أمام القضاء العادي! وذلك لحاجة في أنفسهم، حتى لا يجرؤ رئيس بعدها على مناوأة الفساد، فضلا عن التطاول عليه ومحاربته!

 

3. موقف السيد النقيب

يتلخص موقف النقيب - كما رأينا عبر مداخلاته- في ثلاثة أمور أساسية هي:

- اعترافه بوجود "المادة 93 من الدستور التي فعلا سُنَّتْ أصلا لحماية رئيس الجمهورية في إطار مهامه" رغم تحاشيه ذكر نصها.

- تبني نظرية "الأفعال المنفصلة" التي جاء بها منظرَا دفاع النيابة قياسا على ما في الدستور والفقه الفرنسيين.

- أن الرئيس السابق (وربما اللاحق أيضا) ارتكب جرائم تخالف نص تلك المادة! ويقول في ذلك: "لكن عندما يخرج عن إطار مهامه الدستورية وتْعودْ لا علاقة لها بالشأن العام وتكون قضايا تتعلق بالرشوة والثراء الفاحش وتبييض الأموال. هذا النوع من القضايا ليست له صبغة سياسية".

وفيما عدا بطلان نظرية "الأفعال المنفصلة" التي لا علاقة للدستور والقانون والفقه في موريتانيا بها، فإن أخطر ما في موقف النقيب هو كون الحَكَم فيه والقاضي هو هو! فالنقيب هو الذي يكيل التهم جزافا، وهو الذي يحكم، ويجرد من الحصانة بموجب الجرائم التي يدعي ارتكابها دون أن يملك أدنى بينة عليها؛ وهو الذي يشرع نظرية "الأفعال المنفصلة" ويطبقها! وهو الذي يحدد إطار مسؤولية رئيس الجمهورية!

وهنا يجوز لنا أن نتساءل: أولا يدري نقيب المحامين الموريتانيين أن المادة 93 من الدستور لا وجود فيها للأفعال المنفصلة، ولا تتطرق إليها بحرف واحد على الإطلاق، وأن هذه المادة لم يجر على أحكامها أي تعديل منذ 20 يوليو سنة 1991 إلى يومنا هذا؛ بخلاف المادة 68 من الدستور الفرنسي التي يقيسونها عليها مع وجود فارق؟ وأن الدستور الموريتاني في مادته 13 التي صاغها المشرع في قانون الإجراءات ينص على أن "كل شخص تم اتهامه أو متابعته يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته قانونا بقرار حائز على قوة الشيء المقضي به، بناء على محاكمة عادلة تتوفر فيها كل الضمانات القانونية"؟ أم إنه يدري ذلك ويتجاهله، ولماذا؟ 

يتبع