مرافعة سوية في "ملف فساد العشرية"! (4)

 

القول الثاني: "وهذا يقتضي بمفهوم المخالفة أن رئيس الجمهورية مسؤول عن جميع الأفعال الأخرى التي لم يجر القيام بها "في ممارسته الوظيفة الرئاسية". وينطبق ذلك، ليس فقط على الأفعال الخصوصية البحتة (أفعال الحياة المدنية. الشؤون الخاصة) لكن أيضا – وبالأخص- على الأفعال المقام بها بصفته رئيسا للجمهورية، لكنها يمكن فصلها عن الوظيفة الرئاسية نفسها بسبب مضمونها أو غايتها. فالفقه مجمع - كما أشار إلى ذلك بحق صديقي وزميلي لو كورمو في مداخلاته الأولى - على اعتبار أن الأفعال المنفصلة ليست مشمولة بمبدأ عدم المسؤولية، وأن الرئيس مسؤول من الناحية القانونية والشخصية عن تلك الأفعال.

وتُمَيِّز غرفة الجرائم بمحكمة النقض الفرنسية بهذا الخصوص منذ أواسط تسعينات القرن الماضي، فيما يتعلق بممارسة الوظيفة الوزارية، بين الأفعال التي لها علاقة مباشرة مع إدارة شؤون الدولة، والتي تبرر اختصاص محكمة عدل الجمهورية (محكمة العدل السامية عندنا) والأفعال الأخرى، وخصوصا الأفعال المقام بها فقط بمناسبة ممارسة الوظيفة الوزارية؛ والتي هي خاضعة للقانون العام.

ويمكن أن يدخل في إطار هذه الأفعال كل ما يتعلق بالإثراء غير الشرعي أو بالفساد. وفي المحصلة فإن رئيس الجمهورية مسؤول بالتأكيد شخصيا عن الأفعال المقام بها أثناء مأموريته ولكن التي تكون قابلة للفصل عن الوظيفة الرئاسية. لأنها تم القيام بها بمناسبة ممارسة الوظيفة الرئاسية لكن بهف آخر غير تسيير الشأن العام.

هذا هو تأويل المادة 68 من الدستور الفرنسي، مصدر المادة 93 من دستورنا، الذي انتهى به المطاف إلى أن فرض نفسه، والذي كرسه بقوة وتفصيل إصلاح 2007" (في فرنسا).

فما لي ولسليم؟

 وبترجيح الاستشارة لهذا القول الثاني "الذي انتهى به المطاف إلى أن فرض نفسه؛ والذي كرسه بقوةٍ وتفصيل إصلاحٍ 2007" على حساب القول الأول المنصوص في دستور الجمهورية الإسلامية الموريتانية، نكون قد استوردنا بواسطتها من معامل (Manufactures) الفقه القانوني والقضائي والتشريع في فرنسا، سلعتي "الأفعال المنفصلة" و"اختصاص القضاء العادي" في اتهام ومحاكمة رؤساء موريتانيا السابقين واللاحقين عليها، ومن قبلهما "لجنة التحقيق البرلمانية" التي ما أنزل الله بها من سلطان!

ذلكم هو ملخص ما جاء في العنوان الأول من الاستشارة. أما العنوانان الثاني والثالث، فقد خصصا لتعليل أحكام القول الراجح فيها، والتبشير بفوضى عارمة هي "أن الاتجاه العام اليوم في القانون المقارن هو "الحد من مجال الحصانات التي تعتبر أمرا غير طبيعي يتعين إنهاؤه في دولة القانون" وأنه بخصوص محاكمة محتملة للرئيس "تتعلق بتملك (مفترض طبعا) غير شرعي لأموال عمومية، فإن الصلاحيات التي يتوفر عليها القضاء العادي (مداهمات، حجز، استرداد... إلخ) هي أكثر شمولية مما هو ممنوح لمحكمة العدل السامية".

وقد شكلت هذه الاستشارة – أو الرأي- بكل بساطة رأس الخيط في هذه الدعوى لأنها هي التي أسست ونظرت لهذه المتابعة المخالفة لصريح أحكام الدستور الموريتاني، وهي التي أمْلت كذلكم أكثر إجراءاتها تعسفا بما فيها "الصلاحيات التي يتوفر عليها القضاء العادي (مداهمات، حجز، استرداد...) التي هي أكثر شمولية مما هو ممنوح لمحكمة العدل السامية".

ويمكن تلخيص المآخذ عليها فيما يلي:

إن الاستشارة القانونية التي هي إعطاء رأي قانوني من طرف رجل قانون مختص، انطلاقا من النصوص القانونية المعمول بها، وبناء على طلب شخص يرغب في الوقوف على وضع قانوني معين، تتطلب توفر جملة من المميزات والشروط من أهمها:

1. أن يكون المستشار مختصا في موضوع الاستشارة.

2. أن تكون الاستشارة خلاصة دراسة وتحليل موضوعيين ومتأنيين للقواعد القانونية المعمول بها. إذ الاستشارة هي بيان حكم القانون في الواقعة المحددة وفق القواعد القانونية التي تنظمها!

3. أن تقدِّم الاستشارة حلا قانونيا واضحا وصريحا في الموضوع. فلا تجامل ولا تداهن، ولا تُدخِل طالبَها في متاهات ومطبات غير قانونية ووخيمة العواقب!

4. أن يلتزم المستشار الحياد، والصراحة، والجد في البحث والتحليل، ويبتعد كل البعد عن المشاعر والعواطف، ويتوخى الإفادة.

وإذا حكَّمنا هذه القواعد فسوف نرى أن من أهم سمات هذه الاستشارة:

* عدم اختصاص معدها وقدوتِه - صديقه وزميله الذي استرشد بأقواله- في الموضوع الذي استشير فيه. ولا يُقلّل هذا القول بحال من الأحوال من فضل ومكانة الأستاذ الدكتور والمحامي العلمية التي سارت بها الركبان. غير أن مكانته العلمية، والنزاهة الفكرية كانتا تفرضان عليه أن يستنكف عن تقديم استشارة قانونية في غير مجال اختصاصه؛ وأن لا يُقَلّد غيره فيما اجتهد هو فيه! فذلك أقرب للتقوى.

- أنها ليست "استشارة قانونية" بل هي رأي شخصي خاص، واجتهاد فيما لا يجوز فيه الاجتهاد. ذلك أن كل رأي أو حل يعطى دون استناد إلى النصوص القانونية المعمول بها، ودون أن يكون زبدة دراسة وتحليل موضوعيين متأنيين لتلك القواعد، إنما هو رأي شخصي، ولا يدخل بصفة من الصفات ضمن قواعد الاستشارة القانونية. وبديهي أن ما ذهبت إليه هذه الاستشارة من أحكام حول "الوضع القانوني والقضائي لرئيس الجمهورية" مخالف تماما لأحكام الدستور الموريتاني. وأن الشعب الموريتاني قد شرَّع في دستوره، بصورة صريحة وواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، قواعد قانونية نص فيها وحدد "الوضع القانوني والقضائي لرئيس الجمهورية". وما يزال هذا النص الدستوري قائما لم يلغ ولم يُعَدَّل. وكان من واجب الاستشارة القانونية التقيدُ التام بنص دستور بلدها! وبإخلالها بذلك الواجب تكون فضولا أو مجرد رأي شخصي.

- أن "الاستنتاج بمفهوم المخالفة" (le raisonnement a contrario) الذي توصلت إليه الاستشارة كان في غير محله. فالقول "بمفهوم المخالفة" لا يجوز في ظل وجود نص صريح. وإذا افترضنا جوازه فلا بد أن يكون النص قد منع عملا قانونيا معينا وسكت في شأن عمل آخر. فيمكن عندها، انطلاقا من قراءة معكوسة للنص الوارد، استنتاج قاعدة تحدد الحكم الغائب! ونص المادة 93 من الدستور الموريتاني نص كامل وواف، لم يسكت عن شيء!

- وحتى إذا نظرنا إلى هذه الاستشارة من باب مبدأ المصالح المرسلة: جلب مصلحة أو دفع مفسدة. فلن نجد لها صلة به للاعتبارات التالية:

أ. أنها ألغت مناسبا معتبرا (مصلحة معتبرة) اعتبره المشرع وشرع أحكام المادة 93 من الدستور لتحقيقه.

ب. أنها شرَّعت بفقهٍ وتشريعٍ أجنبيين مناسبا ملغى (مصلحة ملغاة) ألغاه المشرع ولم يعتدَّ به بنص المادة 93 من الدستور.

ج. أضف إلى ذلك عدم دخولها أصلا في هذا الباب، لكونه إنما يدخل فيه حصرا المناسبُ المرسل (المصالح المرسلة) وهو معنى لم يقم الدليل الشرعي المعين على اعتباره أو إلغائه، وسُكت عنه.

- ثم إن من مميزات الاستشارة القانونية الأساسية مراعاةُ الموضوعية والصدق والصراحة، والتجرد والابتعاد عن العواطف والميول الذاتية وتغليبِ المصلحة الشخصية. وهي أمور قد لا تتوفر كلها في هذه الاستشارة؛ لا بسبب ما ذهبت إليه من مخالَفَةٍ لدستور وقوانين البلاد، ومن تقليد ونقل حرفي لقوانين أجنبية فحسب؛ بل بسبب اعتمادها أيضا على قول خصم سياسي مجاهر بالعداوة، هو الأستاذ لو غورمو الذي أعلن يومها على أثير "بي بي سي" "نحن (حزب اتحاد قوى التقدم) من دعا إلى تشكيل لجنة التحقيق البرلمانية، ونسعى بها فعلا إلى تصفية الحسابات مع ولد عبد العزيز الذي لم يكفَّ خلال عشريته عن تصفية حساباته معنا؛ ولم يلتحق نواب الأغلبية بدعوتنا إلا بعد انفجار أزمة المرجعية".

- وما يزيد أمر هذه الاستشارة غرابة هو نشرها الواسع – عند صدورها- في وسائل الإعلام، والعمل بها تلقائيا كعقيدة قانونية لوزارة العدل ولفيف محاميها، أُسِّست عليها ترسانة المتابعة التي تعرض لها رئيس الجمهورية السابق محمد ولد عبد العزيز ظلما. وذلك دون معرفة الجهة التي طلبتها، والموضوعِ الذي حددته تلك الجهة وطلبت حوله استشارة من المستشار، والمعلومات التي زودته بها حول موضوع الاستشارة الخ.. وكلها أمور إلزامية في عملية تقديم الاستشارة القانونية. والأدهى من ذلك كون هذه الاستشارة المخالفة لصريح نص الدستور الموريتاني، قد عُمِل بأحكامها فور صدورها دون أن يجري حولها استفتاء شعبي، أو تعرض - على الأقل- على مصادقة الهيئة التشريعية في البلاد!

يتبع