توقيع "سفارة الأَرْز" في حفل بهيج (4)

نظرة في كتاب "سفارة الأرز"

د. يحيى بن البراء

ما إن استلمت كتاب الأستاذ محمدٌ ابن إشدو الجديد: "سفارة الأَرز في إفريقيا الغربية" الذي أهدانيه مشكورا وطلب مني أن أقرأه، وأبدي له عليه ملاحظات، ثم تصفحت ثبت محتوياته، حتى شُددت إليه شدا، واستغرقت في قراءته حتى أتيت عليه بكامله دون أن أغير من ضجعتي أو أحس بثقل السهر ووطأة تأخر الليل وقد مر منه نصفه أو يزيد قليلا.

هذا الكتاب الذي نحضر اليوم حفل توقيعه يجمع بين دفتيه عنصري الإمتاع والإفادة؛ فهو مفيد لأنه خطاب علمي يقدم معلومات ومعطيات واقعية، وهي - في أغلبها- جديدة ومما لم يطلع عليه الموريتانيون بالرغم من أهميتها في ربطهم بروافد هويتهم من جهة، وفي إقامة مشروع كيانهم السياسي من جهة أخرى.

وهو مفيد ثانيا لأنه يعرض جوانب من حياة المؤلف، فيرسم مساره السياسي، ويبرز بعض ملامح منازلاته ومغالباته لتحدياتٍ وهمومٍ عصفت بالوطن بشكل خاص وبالأمة على العموم قلَّ من تصدى لها في ذلك التاريخ ممن شاهدها ووعاها وحاول فيها تأثيرا، إلا خارت قواه وعيل تجلده ورضي من الغنيمة بالإياب. وهذه السيرة الذاتية كما وردت في الكتاب لا تنحد في الواقع في شخص المؤلف فقط؛ وإنما تصور نمطا من البشر هكذا خلقوا وهكذا سلكوا، فلم يقبلوا طواعية المفعول به وثانويته، وإنما كانت صفة العامل سمتهم الفارقة وأرادوا الفعل وتكلفوا في سبيله بذلا وتضحية..

وهو مفيد ثالثا لأنه تحليل سياسي واضح القسمات يقدم بشكل متسق ومتصلِ الحلقات الدور الطليعي الذي قام به جماعة من الشباب شاركوا في مختلف تفاصيل سيرورته، فأنشؤوا أدبا وثقافة وتركوا تاريخا. وهو سرد لوقائع تعطينا كثيرا من المعلومات عن الطريقة التي هب بها هؤلاء الشباب ليختطوا طريقا للعمل من أجل التغيير والنهوض اتسمت بالجرأة والتحدي فكانوا كما قال الشاعر:

 نحن اللذون حملنا هم أمتنا ** وحامل الهم كالبركان ينفجر

 كما يكشف لنا هذا السرد أسماء أشخاص كانوا فاعلين في بعض مراحل المشهد السياسي ممن تخطفته الموت قبل بلوغ الامل أو فَرَّ من الزَّحْف لَا إِلَى فِئَة. كما يبرز نشأة دولة الاستقلال وكيف كان يدار الشأن العام، وما هي طبيعته، وكيفية تداوله، ومن هم أصحاب الفعل فيه، ولماذا جاءت نتائجه في جوانبه السلبية والايجابية كما هي. فالمؤلف شاهد من أهلها كما قال الدكتور المقدم محمد أحمد بن عبد الحي، رافق هذا المسار من أوله وكان صاحب دور بارز فيه.

ثم إن الكتاب أيضا ممتع لأنه - في الوقت ذاته- يحمل شحنة غنائية وعاطفة إنسانية عالية النغمات تكسوه رونقا خاصا؛ بالإضافة إلى تلك النكهة الشعرية التي تعرف عن مؤلفه. فمؤلفه أحد رجال الأدب والتاريخ قبل أن يكون قاضيا ومحاميا ورجل سياسة ووجها من وجوه موريتانيا المعاصرة. وهذا الجانب الأدبي والتاريخي ربما يكون هو الذي صاغ المسار المهني والسياسي للكاتب فكانت مواقفه تتسم بالجراءة والشجاعة والاستقلالية، ولذا عرف مسلسل التهميش والسجن والمطاردة والإقامة الجبرية.

وهو ممتع أيضا لما فيه من استدعاء الاحالات الى التاريخ العربي والإسلامي، ولرسمه لمشاعر النجاحات والإخفاقات والهزائم والانتصارات التي عايشها المؤلف؛ سواء على المستوى الوطني أم على المستوى العربي.

فنجده مثلا يصف كيف استخفه ورفقاءه الزهوُ حين تكللت ثورة الجزائر بالنجاح، وحين بدأ يتكشف ذلك الحلم العتيق عندما قام رئيس الجمهورية الأستاذ المختار ابن داداه بسلسلة من القرارات الجريئة والمفاجئة، وكم كانت مفاجآتهم عند ما قلب بعض رفقاء النضال ظهر المجن فاستبدلوا الطيب بالخبيث تحت إغراءات المال والسلطان فخانوا القضية، وكم كان يأسهم وانهيارهم لما كانت النكسة وانسدت مسارب الأمل والتفاؤل عند الكثير. فأجهز على الحلم واغتيل الأمل.

أما الكتاب من حيث عرضه فأول ما يبدو للقارئ منه هو الصور الست التي تظهر على غلافه. وهي صور ذات دلالة ومغزى، تبدأ من اليمين بصورة الأستاذ المختار بن حامد، ثم بصورة يوسف مقلد، ثم صورة الأستاذ المختار ابن داداه، ثم بصورة السيد سيدي محمد بن سميدع، ثم بصورة الرجلين اللبنانيين: سعيد علي فخري، وأحمد علي مخدر. ويبدو لي أن هؤلاء الأشخاص هم - في الواقع- وجوه شخصية الكاتب يمثلون أبعادا متداخلة فيه.

وقد جاء هذا الكتاب الأنيق في شكله في حدود مائة وخمسين صفحة، وقسمه المؤلف الى ثلاثة فصول في كل فصل مفالك سماها فروعا.

تكلم في الفصل الأول عن سفارة الاستكشاف فخصص الفرع الأول للأستاذ يوسف مقلد، والفرع الثاني للأستاذ المختار بن حامد. أما الفصلان الثاني والثالث فتكلم فيهما عن نواقص الاستقلال، وعن حركة القوميين العرب في موريتانيا، وعن النكسة (67) وعن انتفاضة عمال "ميفرما" (68) وعن رحلته هو إلى الشام في نفس السنة التي كان لها ما بعدها في تأجيج الحراك السياسي وبلورة الخطاب التثويري، وعن العدوان الإسرائيلي على الأسطول الجوي اللبناني في مطار بيروت، وعن شروع شباب الثورة في النشر والتوزيع وعن عقود التيه الثلاثة (1978 – 2008) التي تلت الحرب، وعن الفترة الحالية التي رآها بارقة أمل واعد.

وجاء الكتاب مراوحا في معالجته بين مشغلين يبدوان مركزيين عند المؤلف؛ هما: الأمة والدولة. هذان القسيمان اللذان تعددت زوايا النظر لهما، وتنوعت جبهات العمل فيهما، وإن حاولنا رصد هذا التعدد وتصنيفه في أربع جبهات رتبناها على محور التاريخ كالتالي:

الأولى جبهة الإثارة والإيعاز والربط والتنسيق، وقد اضطلع بها اللبنانيون وقاموا بها كما تحملوها.

الثانية جبهة صياغة معالم الهوية بشكل قابل للتعميم والنشر، وقد تحمل عبأه الأستاذ المختار بن حامد.

الثالثة جبهة الشروع في تجسيد فكرة الدولة والأمة، وقد قام به الأستاذ المختار ولد داداه ورفقاؤه الأوائل.

الرابعة جبهة تصحيح المسار وتحريك السواكن، وهي التي نهض بها جيل شباب الاستقلال.

1. بخصوص الجبهة الأولى يكاد المؤلف يحصر أسباب هذه النجاحات الكبرى والإنجازات المحققة في إسهام أهل بلاد الشام؛ وخاصة أبناء لبنان. والشام تلك الأرض المباركة المعطاء التي ظلت منذ أن برزت الحضارة العربية الإسلامية للوجود ينبوعا ثرا لا ينقطع لرفد جهات الأرض الأربع بالعلم والحضارة.

ولذا رأى المؤلف أن ينصفهم بعد أن غمطوا حقهم وأهمل ذكرهم، فيعيد لهم الاعتبار ويحيي ذكرهم باعتبارهم فاعلين أساسيين فيما تم من مكتسبات سياسية وحضارية، ولم يعطوا حقهم في التأريخ لموريتانيا المعاصرة، ولذا عنون عمله بسفارة الأرز في غرب إفريقيا.

وقد بين المؤلف كيف رفد المهاجرون اللبنانيون – وهم تجار نزلاء يطلبون مكاسب العيش، ولهم في همومهم اليومية شاغل، كيف رفدوا شباب موريتانيا المتدفق حيوية ونشاطا وحبا للتغيير - والذي فقد البوصلة فلم يعرف من أين يبدأ ولا كيف يبدأ- بلوازم التكوين وأدوات العمل، فقدموا لهم المادة التثقيفية من كتب ودوريات، وسهلوا لهم التواصل مع جهات لها في هذا الميدان سبق وتجربة. وقد بان ذلك بوضوح في "رحلة الصيف" كما سماها الكاتب.

ويبين المؤلف أن أبناء الأرز هؤلاء كانوا وراء حقبتين حضارتين مفصليتين في حياة الموريتانيين:

الأولى هي حقبة تشكل الوعي بالهوية والربط بالحاضنة الحضارية (بلاد العرب) وكان مهندسوها رجالا من التجار المقيمين بالسنغال فنبهوا على أهمية تراث هذا الشعب وإسهامه العلمي والثقافي، وعلى ضرورة جمعه والتعريف به؛ بل فوق ذلك نشروا بعض هذا التراث الأدبي والثقافي فأوقدوا بذلك جذوة نار الوعي بالهوية وبالحق وبالتاريخ.

من هؤلاء يوسف مقلد، والحاج علي بيضون، وزكي بيضون، أصدقاء الأستاذ المختار بن حامد الذين حفزوه منذ ثلاثينيات القرن العشرين على الكتابة عن بلاده المنسية والتعريف بثقافتها وأهلها. وقد قام الأستاذ يوسف مقلد نفسه بنشر كتابين للتعريف بأبناء موريتانيا، وبالدولة الوليدة آنذاك، وبالحياة الأدبية لسكانها، في كتابيه "موريتانيا الحديثة.." ونشره في 1960 و"شعراء موريتانيا القدماء والمحدثون.." ونشره في سنة 1962 فقدم بذلك أوراق اعتماده سفيرا لموريتانيا في بلاد العرب كما قال المؤلف، ونقل موريتانيا من زاوية النسيان والهامشية التي فرضها التاريخ والجغرافيا.

 أما الحقبة الثانية فتتمثل في الربط بين الشباب الموريتاني المتحفز المستاء من الحالة المزرية لبلاده وبلاد العرب، الطامح لبعث مجد كاد يندثر، وبين التنظيمات المماثلة في العالم العربي. وقد قام بهذه المهمة الاستاذان سعيد علي فخري وأحمد علي مخدر اللذين يبدو من خلال الكتاب أنهما هما حلقة الوصل والاتصال بين هؤلاء الشباب - وفي طليعتهم المؤل- وبين حركة القوميين العرب في بيروت ودمشق، وهم أداة الاسهام في بلورة خط الحركة الوطنية الموريتانية وتهيئتها للقيام بالدور الذي قامت به في النصف الثاني من القرن العشرين، وهم الوسيلة في التعرف على القضية الفلسطينية؛ قضية العرب والمسلمين الأولى.

2. بخصوص الجبهة الثانية فقد ركز المؤلف على دور الأستاذ المختار بن حامد - الذي لم يوفّ حقه هو الآخر- في انتشال ما أبقته يد الحدثان من تراث هذا الشعب وتاريخه وأخباره. وقد أورد المؤلف خلال الحديث عنه مقطعا بالغ الدلالة من كلام يوسف مقلد وهو يتحدث عن لقائه به أول مرة في مدينة سان لويس في أحد حوانيت الموريتانيين. يوضح ذلك المقطع كم كانت درجة تقدير مقلد للمختار بن حامد، لعلمه وتواضعه وشعره، ومدى انبهاره بسعة اطلاعه رغم حياة الندرة التي يعيشها، كحال إخوانه في ذلك التاريخ من الموريتانيين.

لقد بين المؤلف أن هذا الوصف الذي قدم مقلد للمختار بن حامد وصفٌ قابل للتعميم فنظراؤه في هذه البلاد ممن لم يذكرهم ذاكر ولم يعرفهم حتى ذووهم الأقربون يستعصون على الحد والعد.

وبالفعل فالمختار بن حامد بذل جهدا ضخما في جمع تاريخ موريتانيا وأخبار أهلها، وسافر لذلك أسفارا طويلة وشاقة، وجمع الكثير.. ولولاه لما كتب شيء عن تاريخ هذه الأرض، والناس بعده عالة عليه.

3. أما الجبهة الثالثة فكان القائمَ بها هو الأستاذ المختار ابن داداه؛ باني الأمة الموريتانية ومؤسسِ دولة الاستقلال، وقد تعرض المؤلف لهذه الجبهة (الثالثة) من خلال تحقيب ثلاثي؛ بدءا من "رحلة البحث عن الذات" كما سماها، ثم مرحلة الدفاع عنها، ثم مرحلة الأمل والطموح.

وقد توقف المؤلف عند شخصية المختار ابن داداه وخصص لها - هي الأخرى- مبحثا من كتابه، وبيّن كيف أن هذا الرجل بطموحه الذي لا ضفاف له، وتصميمه الذي لا يُفَلّ استطاع - انطلاقا من لا شيء- أن يؤسس دولة أصبحت بعد عَقد ونصف من الزمن في مصاف دول العالم، تستأتمر وتستشار، ويحترمها الجميع، وتلبي حاجيات مواطنيها، وتخطط لمستقبل واعد وترسي قوانين ومؤسسات.

وكيف أنه كان مهتما بالشأن العربي غارقا فيه، وبقضية فلسطين التي أنجز في سبيلها فتوحات على المستوى الدبلوماسي قل من حققها من قادة دول العرب، وأخذ فيها مواقف بالغة الجرأة.

4. أما الجبهة الرابعة فقد خصصها المؤلف للشخصيات التي مثلت رموزا للنضال الوطني. وكما أسلفنا فالكتاب يرسم مسار حياة مؤلفه باعتباره من أول من انتبه من أبناء جيله في موريتانيا لمأساة الوطن والأمة، والعوائق التي تقف أمام تبوئها للمكانة اللائقة في نادي الأمم. ولذا حمل الهمَّين معا، وكان له زملاء شاركوه التصدي لهذه المطامح، وعدد أسماء بعضهم، وتوقف عند أحدهم مليا؛ وهو سيدي محمد سميدع الذي يبدو من خلال وصفه أنه كان شعلة تتقد حماسا واندفاعا وتفانيا.. فقد شارك - رغم عمره النضالي القصير- في المسائل المفصلية في تاريخ الحركة الوطنية، وكان من خلال الكتاب مركزيا في هذا الحراك النضالي؛ بل ركب كل صعب وذلول.

الخاتمة

وفي الأخير أخرج من قراءة هذا الكتاب الممتع والمفيد بأنه رسالة موجهة للشباب تستنسخ عهود الستينيات وجنونها على حد تعبير الأستاذ أحمد مخدر، وملخصها أن إرادة الحق والمصابرة على المغالبة وعدم الانكسار أمام المثبطات والمغريات لا بد أن تكلل بالنجاح، فلا بد من صنعاء وإن طال السفر، وأن سلاح الموقف الحق والقضية العادلة لا بد أن يفري ولو تعثر وكبا في بعض المرات، وأن الواقعية والاستسلام للأمر الواقع ولموقف الغالب بدعوى ظرفية الموقف وإمكانية الحوار المتكافئ ليست سوى برق خلب لا يعطي ماء ولا يثير هبوبا.

 فأهنئ المؤلف الأستاذ محمدٌ ابن إشدو على هذا العمل الأصيل، وأرجو أن يستمر عطاؤه في صحة وعافية، وأن يجد صدى لهذا النضال والكفاح.

والسلام عليكم ورحمة الله.