حركة 16 مارس المجيدة (8)

 

ولد عيدّلها يروي أحداث حركة 16 مارس (ح3 / 4)

عبرنا النهر إلى بلادنا فوجدنا بانتظارنا ثلاث سيارات لاندروفر من النوع الذي يستخدمه الجيش بموريتانيا وقد صبغت بألوان التمويه المستخدمة لدى الجيش كذلك، وعلى متونها ثلاثة أشخاص في زي مدني ولكن يبدو أنهم ضباط جاؤوا من الداخل لأنهم قدموا التحية العسكرية إلى قيادتنا وسلمونا السيارات وانصرفوا مصطحبين الثياب المدنية التي كنا نرتديها بينما ارتدينا نحن الزي العسكري، وكانت قد قدمت إلينا مع أسلحتنا ثياب مطابقة لما يرتديه الجيش الموريتاني، وبما أن قائدينا معروفان فقد تقنع كل منهما بلثام، بينما ظلت البقية سافرة الوجوه وتعتمر قبعات فقط. ولم يضع الضباط منا ما يشير إلى رتبهم العسكرية، وهو عرف متبع في مثل هذه الحال.. وانطلقنا بكامل أهبتنا العسكرية.

وقد آثر قائدانا لاحقا العدول عن استعمال القنابل اليدوية بغية الحد من الضحايا؛ فقد كانت مميتة بحيث لا يبقى أحد في حدود 50 مترا منها.

الطريق إلى العاصمة

كان في السيارة الأولى عبد القادر وانيانغ وابراهيم ولد اعلي واسماعيل ولد محمدو ويعقوب ولد أشفغ العالم، ويقودها عبد القادر. أما الثانية فتقل العقيد أحمد سالم ومحمد ولد دودو سك والمتكلم وأحمد ولد انديات والداه ولد محمد لعبيد، ويقودها أحمد سالم. أما الثالثة فلم أعرف أين اتجهت ولا ركابها إلا أنهم ضباط أو جنود جاؤوا من الداخل ويرتدون الزي المدني.

وانطلقنا باتجاه أبي تلميت، وعلى بعد 40 كلم منه توقفنا لتناول الشاي وركّبنا لوحات أرقام السيارتين على ضوء النار الموقدة للشاي وتولى تلك المهمة صديق لنا يدعى ابراهيم ولد اعلي – ما زال حيا يرزق- وهو من أفراد جماعتنا. وفي حدود الحادية عشرة ليلا واصلنا السير حتى دخلنا أبا تلميت بعد منتصف الليل دون المرور بأي تجمع سكني أو الحديث مع أي أحد منذ عبرنا النهر، فقد كان قائدانا على دراية تامة بالأرض التي نتحرك عليها وتجنبا المرور من أي مكان مأهول. ويبدو أن خطة سيرنا لم تكن المرور من هناك؛ لذا حين انتبهنا إلى أبي تلميت - بعد ما دخلناه فعلا- عدنا أدراجنا ونكبنا عنه غربا ثم اتجهنا شمالا إلى طريق الأمل وواصلنا السير باتجاه العاصمة دون أن نلفت انتباه أحد حتى وصلنا موضع ملتقى طرق تنسويلم الآن، في حدود الخامسة فجرا، ولم تكن المدينة قد وصلت إلى هناك يومها، فعرَّجْنا جنوبا إلى كثيب مهيل يبعد مسافة مناسبة من الطريق المعبد وتوقفنا بانتظار الصباح.

بعد ما أشرق الصباح نزلنا من سيارتينا واستمعنا إلى البث الإذاعي من مذياع صغير كان معنا، وتأكدنا من جاهزية أسلحتنا وأعددناها للمهمة التي نحن بصددها. وحين تحركنا –في حدود التاسعة صباحا- كان هيداله قد سافر جوا إلى الشگات بمقاطعة بير أم قرين؛ وهو ما نفسره نحن بالفرار، خصوصا وأن لدي معلومات بأن المخابرات الجزائرية أشعرته بوجود مجموعة تسعى لقلب النظام.

كنت أشعر بارتياح ونشوة غريبة منذ دخلت البلاد ووطئت ترابها العزيز. وكان الجميع منشرحا ومرتاحا، كما أن تعامل قيادتنا معنا كان أبويا لا سلطويا.

الساعة 0

كانت خطتنا تقضي بدخول العاصمة في التاسعة والنصف ليتزامن وصولنا مع اجتماع مزمع للجنة العسكرية بالقصر الرئاسي التي كانت تجتمع كل يوم اثنين (كان اليوم يوم اثنين).

قبل انطلاقنا كانت المهمات قد حددت، فكلف العقيد عبد القادر ومجموعته باللجنة العسكرية وكلفنا نحن باعتقال الوزير الأول ثم الانضمام إلى المجموعة الأخرى (مجموعة كادير) مستفيدين من اتحاد موقع اللجنة العسكرية ومكتب الوزير الأول فالكل كان في القصر الرئاسي وقتها، وبذا نكون قد خلّصنا موريتانيا من الدكتاتور الذي يحكمها، ثم نشكل لجنة عسكرية لها رئيسها وأعضاؤها وحكومة مدنية، ولا أدري هل وضعت خطة بديلة في حال فشل الخطة الأصلية، فهذا أمر منوط بالقيادة، وكان  لقائدينا مواضيع يتحدثان فيها دوننا فربما كان منها موضوع الخطة البديلة. وكان عبد القادر هو المصدر الأعلى للتعليمات والتوجيهات.

استأنفنا السير من تنسويلم حتى الثانوية العربية ثم انعطفنا شمالا باتجاه الرئاسة مرورا بفندق مرحبا ثم البنك المركزي، وكان قائدانا قد نزعا لثاميهما وكل منهما يحمل كلاش نيكوف وذخيرته بالإضافة إلى مسدسيهما اللذين سبق ذكرهما.  

دخلنا القصر الرئاسي دون أن يعترضنا أحد؛ فسبق أن فعل ضباط الشيء ذاته قبل اجتماع اللجنة العسكرية تفقدا للمكان وحرصا على سلامة أعضائها، وكانت لهم كلمة سر، فحين خرج إليهم طليعة الفرقة المكلفة بأمن الرئاسة قال لهم الرائد ابراهيم ولد جدو رحمه الله: "سيكريتي" (أمن) وأدى الطليعة(La sentinelle) لهم التحية فدخلوا، وكانت الخطة ذاتها سارية المفعول فاستفدنا منها؛ بل إننا لم يعترضنا أحد فدخلت سيارتانا كما نشاء دون استيقاف أو عرقلة، ولم تكن حماية الرئاسة مشددة يومئذ كما هي الآن، وإنما كان هناك حوالي 7 أفراد. ونزلنا وسارعت كل مجموعة إلى هدفها. نحن إلى الوزير الأول ولد ابنيجاره، وهم إلى اللجنة العسكرية لاعتقال الجميع، وعمد أحد الشباب إلى الهاتف فأطلق النار عليه لقطع الاتصال عن المكان، ولكننا فوجئنا بعدم وجود أحد من المطلوبين! وللأمانة فقد أخبرنا الجنود هناك بأن هيداله هرب في آخر الليل، أما ولد ابنيجاره الذي كانت مجموعتي مكلفة باعتقاله فكان موجودا عند وصولنا وأحس بنا فتسور الجدار الخلفي للرئاسة وفر حسبما قيل لنا هناك. وقد بحثنا عنه 5- 10 دقائق ظنا منا أنه مختبئ في مكان ما، ولما لم نجده هو ولا اللجنة العسكرية قال أحمد سالم: لقد فشلنا مع الأسف!

مؤشرات فشل الانقلاب

جرى ذلك ونحن نسمع تبادلا لإطلاق النار يبدو أنه نجم عن انتباه المكلفين بحماية الرئاسة إلى إطلاق أحدنا للنار على الهاتف كما أسلفت، لذا أطلقوا علينا النار ورد رفاقنا عليهم، وحين خرجنا كان ثمة ضحايا لما حدث، منهم مدنيون برآء لعلهم موظفون، رحمهم الله؛ بينما جرح منا محمد ولد دودو سك ولم نشعر بما جرى له آنئذ لأنه بقي في الرئاسة هو والداه ولد محمد لعبيد وأحمد ولد انديات وابراهيم ولد اعلي. وقد منعنا قائدانا في البداية من الرد على النار بالمثل، إلا أن موقفهما تغير عند استمرار إطلاق النار علينا، ثم رددنا، وحين خرجنا لم نجد أحدا فقد كان مطلقوها قد فروا ومنهم من رمى سلاحه. ولولا الحرص على عدم إطلاق النار لمات ألف شخص وكانت مذبحة؛ فلدى كل منا خمس علب للذخيرة وفي كل علبة 35 طلقة.

ولا صحة لما قيل من أن كادير لما دخل قاعة اجتماع اللجنة العسكرية فلم يجد بها أحدا أحبط فجعل يطلق النار عشوائيا، فقد كان كادير عاقلا ومجربا وهادئا لا ينفعل مثل هذا الانفعال. ولو كان ممن يتصرف هكذا لقتل معاوية وعشرة ضباط اعتقلهم معه، كما أن السبب الذي أشيع لذهاب الرئيس إلى بير أم قرين لا أساس له أيضا، وإنما فر من خطر انقلاب أبلغ عنه ولا يدري من أين يجيئه. وما الداعي ليذهب إلى البير تطييبا لخاطر المغرب الذي كانت علاقته به في أسوأ أحوالها! لقد أراد أن يكون قريبا من الجزائر والبوليساريو ليلجأ إليهما من قريب عند نجاح انقلابنا. ثم إن ما يحكى من شجاعته ليس كذلك؛ فخلال حرب الصحراء كان يبكي تأثرا عند رؤية مصاب من البوليساريو، وماذا يبكيه؟ الشجاع لا يبكي ولو قطع جسده.

لقد تأثرنا بشدة عند ما رأينا الضحايا الأبرياء في الرئاسة ولم يكن هذا ما نريده ولكن البكاء شيء آخر. لقد قُتِل قادتنا أنفسهم فلم يبكوا ولم يهنوا.

عند ما فر أفراد حماية الرئاسة تمت لنا السيطرة عليها وتركنا بها زملاءنا الأربعة الآنفي الذكر وذهب عبد القادر إلى قيادة الأركان.

في قيادة الأركان

كان أولنا وصولا إلى قيادة الأركان إسماعيل ولد محمدو وانيانغ ثم عبد القادر ومن معه رحم الله الجميع، ووصلت أنا وأحمد سالم إليها بعدهم بأقل من عشر دقائق، وعند المدخل حاول الطليعة (La sentinelle) اعتراضنا فنهره أحمد سالم قائلا: ارم سلاحك! فامتثل فورا ودخلنا دون مقاومة فوجدنا كادير يتجول في الردهات بينما كان معاوية مشرئبا من النافذة ومعه ضباط آخرون محاولين تبين حقيقة الأمر، وهم يستمعون إلى دوي الرصاص الذي تجدد في الرئاسة جراء اشتباك بين زملائنا هناك وبين آخرين ربما كانوا من المنطقة العسكرية السادسة.

دخلنا إلى مكتب قائد الأركان (معاوية) وقال لنا عبد القادر: احشروا لي حثالة الضباط الموجودين هنا. وفعلا كان هناك ضباط جمعناهم وأدخلناهم إلى حيث أمرنا، أذكر منهم نقيبا يدعى أيْدّه، وملازما يدعى ولد فكناش ورائدا يدعى كن واعلي ولد محمد فال، ومعاوية جالسا على مكتبه.. هم في حدود العشرة.

جمعناهم في المكتب وجلسوا يستمعون بينما ذهب أحمد سالم وانيانغ إلى الإذاعة، وكنت أنا سأرافقهما فاستبقاني عبد القادر معه بقيادة الأركان وكان معنا هناك يعقوب ولد أشفغ العالم واسماعيل ولد محمدو، وتكرر إرسال كادير إلى القائد يستدعيه دون أن يستجيب أو يعود الرسول، وفجأة دخل علينا النقيب ابراهيم ولد جدو رحمه الله فسلم على كادير وقال له: أنا تحت تصرفكم يا سيدي العقيد، فرد عليه التحية ومكث معنا. وبعد حوالي 20 دقيقة نزلت أنا وابراهيم ولد جدو ومعاوية وكادير، بغية التهدئة وإعلان فرار هيدالة والإطاحة بنظامه واستتباب الأمر لجماعة الضباط الأحرار، وحين توسطنا السلم تعرضنا لإطلاق كثيف للنار من مكاتب الاتصالات، فأصيب ابراهيم ولد جدو في صدره فتداعى إلى الخلف ثم سقط على وجهه أرضا، وكان في طريقه – صحبتي أنا- إلى سيارة "بيجو 504" بيضاء للذهاب إلى قيادة أركان الحرس الوطني. وجرح معاوية في ساعده فحمله عبد القادر - وكان قويا- وجرى به إلى الطابق العلوي وطفقت أنا أطلق الرصاص لتأمين انسحابهما.

الرصاص سيد الموقف

عدنا إلى الطابق العلوي حيث الضباط المحتجزون وتجدد القصف علينا من النافذة بالأسلحة الخفيفة وكانوا يتوقفون ثم يعاودن القصف مدة ساعة ونصف الساعة تقريبا.

حاولنا النزول مرة أخرى مصطحبين معاوية واعلي ولد محمد فال الذي كان ملازما وقتها بينما كان معاوية مقدما. وعند وصولنا إلى السلم وثب اعلي على كادير لاختطاف بندقيته فتفاده وأطلق النار عند رجليه وقال له كلاما منه: أتظن ملازما صغيرا مثلك يستطيع انتزاع سلاح ضابط كبير مثلي؟! ومنه ما لا أريد قوله الآن. المهم أنهما رفعا أيديهما وعادا يجريان أمامنا إلى مكتب قائد الأركان مرة أخرى وتجدد القصف بالرصاص والقنابل علينا، وكنا نعيد الأخيرة إليهم قبل انفجارها. كان معاوية يقول: إنهم حمقى.. كلهم أغبياء!! وعلمنا لاحقا أن سيمبير كان نائب معاوية وأنه يفضل القضاء على الجميع للتخلص منه عند ما سنحت الفرصة لذلك. وفي الأخير يبدو أنهم صنفوا قذيفة 105 وهي جديرة بنسف المكتب كله والقضاء على من فيه، وكنا كلما اشتد القصف علينا نزل أحدنا فأمطرهم بوابل من الرصاص فابتعدوا عن النافذة، أما السلم فلم يصلوا إليه. وكانت معنا أربع بنادق تركوها فأمرْنا الملازم اعلي أن يرميها إليهم من النافذة فانزعج وقال: إنهم حمقى جميعا! فقلنا له: أنت إنما تخشى الموت وإذا لم تفعل فسنقتلك ونلقيك إليهم، فصار يقول لهم: لا تطلقوا النار، لا تطلقوا النار.. فلم يمتثلوا أمره ولم يعبؤوا به ولا بمعاوية.

وفي حدود الثانية ظهرا سمعناهم ينادون المتطوعين للدخول وسمعنا وقع الأقدام على السلم وإطلاق الرصاص منه، وكان معاوية منبطحا قرب الباب، وسمعت الكثير من الناس يقول إنه ألقى بنفسه من النافذة، ولو فعل لمات! وإنما ظل يزحف قليلا قليلا إلى الباب حتى خرج منه مستفيدا من سحب الدخان الكثيفة في المكتب وحين انتبهنا إلى خروجه نظر عبد القادر إلى الخارج وقال: انتهى، لقد مات! ثم عاد إلينا.

الفرار أو الردى!

في الوقت ذاته بدأ المهاجمون يصيحون بنا: اخرجوا كي لا نقتلكم، اخرجوا كي لا نقتلكم.. فيجيبهم عبد القادر بالرفض، وبقينا هكذا إلى حدود الثانية والنصف، ثم دخلوا وهم يظنون أن كل من في المكتب قتلى لما أمطروه به من أنواع القذائف وكانت النيران قد بدأت تشتعل فيه، وسمعت أن شابا مات على السلم برصاصهم.

المهم أنهم اقتحموا المكتب علينا وأسرونا وحين دخلوا لم أتزحزح عن الإمساك ببندقيتي في وضع قتالي، ولدينا السلاح والذخيرة ولكننا لم نشأ قتلهم مع أنه ممكن؛ فقد خلصنا إلى أن الانقلاب فشل وهيداله نجا وتقتيل أبناء موريتانيا عمل عبثي لا جدوى منه، وقررنا الكف عن القتال وكان قائدانا منذ بدأنا تنفيذ الانقلاب يرددان: لا تطلقوا الرصاص، لا تطلقوا الرصاص.. نحن لم نجئ هنا من أجل قتل أحد، وإنما جئنا لتخليص موريتانيا من هذا الدكتاتور الأجنبي ليرحل عنها؛ هذه هي مهمتنا.

أمسكونا وأخرجونا من المكتب الذي لم يعد يمكن البقاء فيه، وحين نزلنا تعلق أحدهم بي أنا وعبد القادر وادعى أننا ابتلعنا السم، وادعى أحدهم أني أنا مدرع وأصر على إطلاق الرصاص علي فتترست بزميل له صرت أضعه بيني وبينه كل ما حاول إطلاق الرصاص علي، فأشهر ضابط من الدرك يدعى جوليس - لا أذكر رتبته بالضبط- مسدسه وأنذره بأنه لو قتلني فسيقتله هو فورا، فتركني.

في تلك الأثناء كان معاوية يصيح بهم: لا تؤذوهم، لا تؤذوهم.. إنهم موريتانيون. قال ذلك لأن الكثير من الناس كان يظننا مغاربة. إلا أنهم لم يعبؤوا بنهي معاوية واستمروا يكيلون لنا الضرب والإهانة، وكانوا قد ألبسونا زيا أزرق مباشرة بعد إنزالنا.

إلى المستشفى

ذهبوا بي أنا وعبد القادر إلى المستشفى الوطني بدعوى ابتلاعنا السم، وهو زعم قادهم إليه الجبن، ولعل مستندهم فيه أنهم رأوا عبد القادر تناول بعض السكر! وكان له من الإيمان ما يمنعه من الانتحار، ولا صحة للقول إنه استعمل أقراصا دوائية أو نحو ذلك، فقد كان حديث السن تام الصحة خاليا من الأمراض. أما أنا فلا أدري دليلهم على ما نسبوا إلي إلا إذا كان بقائي قريبا من عبد القادر طيلة الوقت، لأنه كان يكلفني بالمهمات وكنت ألازمه جيئة وذهابا.

حملونا إلى المستشفى في سيارة إسعاف بعدما وضعوا القيود في أيدينا واستمروا في السب والشتم حتى وصلنا المستشفى، وكان الشارع طبيعيا مع أن بعض الناس كان ينظر بحيرة. وكان الوضع في المستشفى فوضويا كتصرف أفراد الجيش الذين معنا، فلم يكن يوجد قائد يؤتمر بأمره ويمتثل نهيه. وهناك حاول ضابط صف قيل لي إنه يدعى موستيك إطلاق النار علي مرارا، وهو جبن ليس إلا؛ لماذا تقتل شخصا بعدما أمسكت به!

في قسم الحالات المستعجلة حاولوا إفراغ معدتينا – أنا وعبد القادر- فقد أدخلوا أنبوبا إلى معدتي رغم نفيي القاطع لمزاعمهم، وعند الغروب ذهبوا بنا إلى المنطقة العسكرية السادسة في سيارة للجيش على ما أعتقد، وكانت مغلقة وكنا موثقين بشدة وكانت أعيننا معصوبة، يرافقنا خمسة عسكريين أو ستة، منهم من يدوس ومنهم من يشتم وكان الخوف والعدوانية مسيطرين عليهم، وحين ألقونا من السيارة بالمنطقة العسكرية السادسة كما تلقى الأمتعة وجدنا هناك زميلينا اسماعيل ويعقوب، وكانوا قد مروا علينا حين اعتقلونا بابراهيم والداه، وكانا ممن تركنا في الرئاسة بينما نقلوا محمد ولد دودو سك إلى المستشفى جراء إصابته بالرصاص في أسفل البطن خلال الاشتباك الأول. أما العقيد أحمد سالم وانيانغ فكانا في قيادة أركان الحرس الوطني، لأن اعتقالهما بالإذاعة تم على أيدي رجال الحرس.

في المنطقة العسكرية 6

وضعونا جميعا في مخزن كبير، وشدونا جميعا بحبل زيادة على القيود الحديدية، بحيث أن ما يمس الأرض لا يعدو بقعة من الجسد قد تكون الوجه أو الركبة مثلا، وأغلقوا علينا الباب بعد نزع العصائب عن أعيننا وتركونا هناك، ولا أذكر أنهم قدموا لنا طعاما طيلة بقائنا في أيديهم حتى أحالونا إلى الدرك الوطني، فهم لا يستطيعون إطعامنا إلا بإذن من ولد هيداله وهذا كان مرعوبا. كما لم نتمكن من الصلاة على الهيئة المعهودة لها.

أثناء ليلتنا هذه كان عبد القادر يوطننا على أن المهم هو الوطن وأن كل شيء يهون في سبيل تخليصه من الدكتاتور، ويؤكد على ضرورة التماسك وعدم الانهيار والجزع، وهو ما حدث إلى النهاية. وكنا قد وطنا أنفسنا عند عبور النهر على أن المآل أحد احتمالين؛ فإن نجح الانقلاب فمعنا الكثير من الناس سيظهرون آنذاك وإن فشل فالموت المحقق والجميع سيتنكر لنا. معاوية وأحمد ولد منيه - رحمه الله- ومحمد سيدينا ولد سيديا والكثير من الضباط كانوا معنا في الانقلاب، وهم أدرى بذلك.. كانوا يراسلوننا. وحتى ابريكه لم يكن بعيدا منهم، ولكنهم لم يستطيعوا إظهار مواقفهم حين فشل انقلابنا.

زيارة الرئيس

في ليلتنا الأولى زارنا النقيب محمد ولد لكحل كما زارنا في اجريده ولم يقابلنا إلا بخير ولكن لا حيلة لديه. جاءنا مع هيداله في ليلتنا الأولى ووضعوا لعبد القادر مقعدا وتحدث مع الأخير ولا ندري ما دار بينهما، فلم نسأل عنه وكان ألم الوثاق يمنعنا من الانتباه إليه. وبعد عشر دقائق خرج محمد خونا وأعيد عبد القادر إلى مكانه السابق. ولا صحة لما أشيع من دوس هيداله بحذائه على عبد القادر، ولا أظنه يملك الشجاعة اللازمة لذلك.

أما ولد لكحل فقد حيانا بأدب وسألنا عن صحة خبر باخرة مغربية في طريقها إلى انواكشوط فقلنا إننا لا علم لنا بها وفند له عبد القادر الخبر. ولم يكن من السهل على الضباط مقابلتنا دون إذن ولد هيداله.

في صباح اليوم التالي زارنا كاتب ضبط - لعله من الدرك- صحبة مدع عام بمحكمة العدل الخاصة كما كانوا يسمونها، وأبلغانا بالتهمة الموجهة إلينا: محاولة اغتيال رئيس الدولة والوزير الأول. وسلما كلا منا استدعاء بهذا الخصوص وطلبوا منه قراءاته، وقالا لنا: ستجري محاكمتكم مساء اليوم بدار الشباب (القديمة الآن) وهو ما لم يكن. ثم أبلغنا لاحقا بأن ذلك لم يمكن لأسباب أمنية، وبتنا هناك ثم أحالونا إلى الدرك الوطني صباح الثامن عشر من مارس، بعد يومين من التعذيب المتواصل والإهانات والعنف البدني واللفظي في المنطقة العسكرية السادسة. وهي إهانات لم نرد عليها لأننا أسرى وكل المتاح لنا إنما هو الكلام وهذا لا نرضاه لأنفسنا.

 من قتل من؟

قتل شخصان في قيادة الأركان كما أسلفت، هما الرائدابراهيم ولد جدو وكان -رحمه الله- من جماعتنا وحين نزلنا كانت جثته مغطاة فحزنت غاية لأني ظننته المرحوم أحمد سالم. والثاني الشاب الذي سبق ذكره وقتل كلاهما على السلم برصاصهم هم، وكذلك المفوض القطب ولد محم بابو الذي أصيب في الرئاسة.

ولا أدري تفاصيل ما حدث في الإذاعة إلا أن ضابطا متقاعدا يدعى سيد أحمد ولد ابيليل حدثني مرارا بأن أحد أفراد الجماعة أراد إطلاق الرصاص عليه بينما كان يحاول الخروج من النافذة عليه فأمسك أحمد سالم ببندقية رفيقنا ومنعه من ذلك ونهاه عن إئذائه.

وما يقال من أن المدير المساعد تحايل على أحمد سالم وأوهمه أن البيان يبث دون أن تكون الأجهزة مشغلة لا صحة له، ولا أدري كيف يمكن التصدي لملازم وعقيد مسلحين ومنعهما مما أرادا. ولو كنت أنا مكانه لما استطعت منعهما. وإنما لم يرد أحمد سالم بث البيان لأن العملية استدعت سفك الدماء، رغم أنه كان مسلحا ولديه الذخيرة، إلا أنه كان يدرك أن الانقلاب فشل ولا يريد الخسائر أو الضحايا مهما حدث.

وقد مكث أحمد سالم ومن معه في الإذاعة بعض الوقت ولعل اعتقالهم جرى بالتزامن مع اعتقالنا. وطيلة وجودهم هناك كانوا محاصرين بالحرس ووحدات من المنطقة العسكرية السادسة، وكان إطلاق النار يجري في محيط الإذاعة من حولهم، ولكن ذلك لم يدفعهم إلى تصرف طائش. فما جدوى قتل الناها بنت سيدي أو سيد أحمد ولد ابيليل أو ولد الحيمر في انقلاب فاشل؟ إنه عمل عبثي!

إن هدفنا الإمساك بولد هيداله وهذا - كما أسلفت وكما هو معلوم للجميع- هرب إلى البير تمهيدا للجوء إلى البوليساريو عند الاقتضاء.

على ذمة التحقيق

عندما أحلنا إلى الدرك الوطني وجدنا أحمد سالم وانيانغ هناك محالين من طرف الحرس الوطني فاجتمعنا هناك وأمضينا حوالي 48 في ظروف أخف من سابقتها؛ حيث اقتصر الأذى على تقييد القدمين وإيثاق يدي كل منا من وراء ظهره. واستطعنا تبادل التحية. ومساء اليوم ذاته التقط الدرك صورنا التي نشرت في جريدة "الشعب" وأثناء اصطفافنا للتصوير جرى حديث خاطف بيني وبين أحمد سالم؛ سألني عن أحمد ولد انديات ولم يجد لدي علما بأمره فأعرب لي عن خشيته أن يكون قتل، ثم علمنا بعد ذلك بنجاته - لله الحمد- وخروجه من البلاد. وما نقلته الصورة كان حقيقيا.

أظهرت الصورة إصابة خفيفة في جبين عبد القادر وزعم البعض أنها بفعل فاعل وطئ على وجهه ولا صحة لهذا الزعم كما أسلفت، وإنما هو من تأثير رصاصة عابرة لامست وجهه. وكانوا يخافونه للغاية، ولم أر منهم من يهينه ولقد تعرضنا للضرب المبرح وأنواع الأذى ولم أره تعرض لشيء من ذلك. وكنت أفضل تلقي الإهانة بنفسي عن توجيهها إليه.

وأثناء اعتقالنا بالمنطقة العسكرية السادسة كان انيانغ - رحمه الله- يمازح بعض زملائه السابقين من ضباط الجيش بتصرفاتهم خلال مواقف وجدوا أنفسهم فيها خلال حرب الصحراء التي كان هو من أبطالها؛ فمنهم من أحرق صندوق النقود استعدادا للفرار.. ونحو ذلك.

لقينا لدى الدرك ضباطا عاملونا معاملة ممتازة، ويؤسفني أن لا أعرف أحدا منهم، وكانوا مستائين إلى أقصى الحدود. وكان قائد الدرك وقتها المرحوم يال عبد الله ولم يكن قاسيا معنا؛ بل كان النقيب محمد الأمين ولد الزين قاسيا معنا، وكان يحرض علينا. ولا أدري هل كان نائبا للقائد أم مسؤولا عن BED(مكتب الدراسات والتوثيق) ثم عين بعد ذلك قائدا للدرك.

واقع جديد!

خلال الـ48 ساعة التي أمضيناها لدى الدرك (18- 20 مارس) جرى استجوابنا والتحقيق معنا من طرف ضباط لا أعرفهم، وأعتقد أن محمد الأمين ولد الزين يتزعمهم. ولم تكن المعلومات المكتملة لدى أي منا سوى عبد القادر وأحمد سالم. وتركزت الأسئلة على ما يروج من حشد المغرب لغزو موريتانيا؛ فالضباط كانوا قد استمرؤوا مكيفات الهواء التي جربوها منذ عهد قريب، ويودون البقاء في رفاهية، ولا يريدون التضحية بهنائهم والعودة إلى ميادين القتال.

أما أنا فتلخصت إجاباتي في كوني مع القائدين فيما هما فيه، واقتصر العنف خلال التحقيق على الكلام البذيء ورمينا بالجبن، وكنت أرد بأن الخوف لو كان نافعا لخفتُ، ولكن لا جدوى منه ولذا لا أخاف! وكنا قد سمعنا من الشتائم وأنواع الإهانات والعنف اللفظي والبدني ما جعلنا لا نأبه بما نتلقاه. وكان أشد ما لاقيت تأثيرا في نفسي رؤية أحمد سالم مصفدا في أيديهم ووجدت صعوبة بالغة في تقبل هذا الواقع الجديد القاسي علي للغاية. أما هو فكان صلبا متماسكا رابط الجأش بعيدا من الانهيار وكان يوصينا بالتجلد والصبر والاستخفاف بالشدائد، ولم يهن أو تضعف معنوياته أبدا، ولم تفارق الابتسامة وجهه. والشيء نفسه ينطبق على كادير؛ فقد كان شجاعا قليل الكلام يوصينا بمثل ما يوصينا به أحمد سالم ويقول: سيتغير الكثير بإذن الله. وكذلك كان باقي جماعتنا، ولا أذكر أي تدن في معنوياتنا إلا أني كنت مدخنا وقتها وشعرت بشدة بـ"آتري" وتمنيت لو وجدت من يعطيني سيجارة، وكانوا يقولون لنا: هل "آتري" هو ما جاء بكم من المغرب؟! لم يجرؤ أحد على إعطائنا سيجارة إلا ولد الزين مرة واحدة مع الكثير من الأذى اللفظي، وقد دخنت دون مبالاة بكلامه.

إلى المجهول

بعد الدرك أعدنا -نحن معتقلي قيادة الأركان والرئاسة- إلى المنطقة العسكرية السادسة، وبعد وقت فتح الباب على مصراعيه فأدخل إلينا أحمد سالم وانيانغ. وفي حدود الخامسة فجرا فتح الباب بشدة أيضا وكان الظلام دامسا وإذا بالنداء: أين فلان؟ أين فلان؟ هبوا.. أين أنتم؟ السيارة الفلانية، السيارة الفلانية.. دخلوا وبأيديهم مصابيح يدوية وعصبوا أعيننا ورمونا في السيارات كما ترمى الأمتعة وانطلقوا بنا، وكان من حظي أن رموني في مؤخرة سيارة تبين لي لاحقا أنهم أجلسوا في مقدمتها أحمد سالم ويجلس أحدهم بينه وبين بابها. ظننتهم ذاهبين بنا إلى حيث يعدموننا، وكنت أتعوذ وأتلو بعض الأدعية سرا في نفسي خشية أن يحسبوني خائفا، وتوهمت أنهم كلما قطعوا مسافة قتلوا شخصا من رفاقي ولم يجئ دوري بعد.

لم أكن أدري أين نحن ولا إلى أين يسار بنا. ثم تبين أنهم نقلونا إلى المكان الذي أزمعوا محاكمتنا فيه.

 يتواصل

(نقلا عن قناة "الوطنية" بتلخيص)